
لماذا لا تكفي الثروات وحدها لقياس السعادة الحقيقية للدولة؟ لا تقلقوا، كونوا سعداء! – ولكنْ، هل نحن سعداء؟ سمعنا جميعًا أغنية بوبي ماكفيرين الشهيرة التي صدرت عام 1988، لكنَّنا نشعر برسالتها في صميمنا كلّما قَسَت ظروف الحياة. بمناسبة اليوم الدولي للسعادة، دعونا نبحث في الأسباب الحقيقية التي تجعل مجتمعاتنا سعيدة ومزدهِرة. |
الناتج المحلّي الإجماليّ وحده لا يضمن السعادة
اعتادت الحكومات لسنواتٍ عدّة على استخدام الناتج المحلّي الإجماليّ كمقياسٍ لنجاحها. يُحدّد الناتج المحلّي الإجماليّ القيمة المالية الإجماليّة لجميع السلع والخدمات التي يتمّ إنتاجها داخل الدولة. كانَ يُقصَد به حصرًا أن يكون مؤشّرًا اقتصاديًا، إلّا أنّه أصبحَ مُرادفًا للتقدُّم المجتمعي والرفاه الاجتماعي حول العالم، بناءً على افتراضٍ بأنَّ ارتفاع الناتج المحلّي الإجماليّ يعكس جودة الحياة. ومع ذلك، لا يعني النموّ الاقتصادي دائمًا السعادة.
فالتقدُّم الفعلي ليس محصورًا بالناتج المحلّي الإجماليّ، بل يكمُن في الرفاه الاقتصادي والاجتماعي والبيئي المرتبط بحياة الناس وسياسات الدولة، حيث تُعطى الأولوية للكرامة الإنسانية، والمرونة البيئية، وتكافؤ الفُرَص. في الواقع، منذ سبعينيات القرن الماضي، أشارَت أصواتٌ عديدة في مختلف المجالات السياساتية والأكاديمية إلى أنَّ النموذج الاقتصادي القائم على النموّ يُعدّ مقياسًا محدودًا، مُحذِّرةً من أنَّ التركيز المفرط على نموّ الناتج المحلّي الإجماليّ غير مرغوب فيه ولا يُمكن تحقيقه، لأنَّه لا يُراعي حدود كوكبنا ومواردنا.
تزدهر السعادة الحقيقية عندما يعيشُ سكّانُ الأرض في حالةٍ من التوازن والتناغم مع الكوكب. لقد حانَ الوقت للخروج من دوّامة الناتج المحلّي الإجماليّ والفكرة المغلوطة التي تزعم أنَّ هذا الناتج يُحدِّد رفاهنا. في المقابل، دعونا نطرح سؤالًا بديهيًا: ما الذي يجعلنا سعداء فِعلًا؟
إلى أيّ مدى تُحدِّد السياسات الاقتصادية مقدارَ السعادة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟
تتحدّى تصنيفات السعادة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الارتباطات التبسيطية القائمة على الناتج المحلّي الإجماليّ. فبينما تستغلّ بعض الدول ثرواتها لتعزيز ازدهار مجتمعاتها، تُثبت دولٌ أخرى أنَّ الموارد وحدها لا تكفي، مهما كانت وفيرة، إذا لم تترافق مع سياساتٍ مدروسة ومُجدِية.
يُشير تقرير السعادة العالمي لعام 2024 إلى أنَّ السعادة ليست مجرّد حالة مزاجية، وأنَّها لا تعتمد على الثروة وحدها، بل تأتي نتيجة السياسات الحكومية الفعّالة وتَوَافُر المقوّمات الأساسية كالشعور بالدعم والاستقرار المالي وحرّية اتّخاذ القرارات الحياتية. في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تتفاوت التصنيفات بين الدول. وفقًا للتقرير، تحتلّ الإمارات العربية المتّحدة المرتبة الأولى في المنطقة، والمرتبة 21 عالميًا، تليها الجزائر في المرتبة 74، ثمّ العراق في المرتبة 105، ثمّ تونس في المرتبة 115، ثمّ مصر في المرتبة 127، ثمّ لبنان في المرتبة 142، وأخيرًا اليمن في المرتبة 140.
وعلى الرغم من أنَّ الناتج المحلّي الإجماليّ في المملكة العربية السعودية أعلى من الإمارات العربية المتّحدة، إلّا أنَّ دولة الإمارات تسبق السعودية من حيث تصنيف السعادة، حيث تحتلّ السعودية المرتبة 32 بينما تحتلّ الإمارات المرتبة 21. وهذا دليلٌ على أنَّ السعادة لا تقتصر على المال. إذ تولي دولة الإمارات اهتمامًا متزايدًا بالاستدامة والرفاه، وذلك من خلال المبادرات التي تتبنّاها مثل “الاستراتيجية الوطنية لجودة الحياة 2031″، و”البرنامج الوطني للسعادة وجودة الحياة”، فضلًا عن إنشاء منصب وزير الدولة للسعادة وجودة الحياة في عام 2016، وهو أوّل منصب وزاري من نوعه على مستوى العالم. تهدف هذه الجهود الحكومية والسياساتية الشاملة إلى ترسيخ مكانة الدولة في صدارة الممارسات التي تنهض بجودة الحياة وتُعزّز الرفاه.
ولكنَّ ذلك لا يعني أنَّ الاستقرار الاقتصادي غير مهمّ. فثمّة دول تشهد انخفاضًا حادًّا في مستوى السعادة بسبب الأزمات السياسية والاقتصادية، مثل لبنان واليمن. إذ تعكس مستويات السعادة المتفاوتة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التفاعل المعقّد بين العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تُحدِّد جودة الحياة اليومية.
وإلى جانب التصنيفات الوطنية لبلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يكشف تقرير السعادة العالمي لعام 2024
أيضًا عن اتّجاهٍ عالمي مُقلق، وهو تزايد ظاهرة عدم المساواة في السعادة. فخلال الأعوام الاثني عشر الماضية، ازدادت التفاوتات في مستوى الرفاه بأكثر من 20%، ليس بين المناطق فحسب، بل أيضًا بين مختلف الفئات العمرية. وفي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تَظهر هذه التحدّيات بعمق وتُؤثِّر على رفاه الأفراد بطُرقٍ مختلفة.
بالتالي، من الواضح أنَّ السعادة ليست معيارًا واحدًا ينطبق على الجميع، وخصوصًا في منطقةٍ متنوّعة وديناميكية مثل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
بمناسبة اليوم الدولي للسعادة هذا العام، دعونا نتذكّر أنَّ الناتج المحلّي الإجماليّ قد يُموِّل التقدُّم، ولكنَّ السياسات الفعّالة والمدروسة التي تنطلق من مبادئ المساواة والأمن والكرامة هي وحدها التي تكفل تحويل الثروات إلى رفاهٍ للمجتمع وتحسين جودة الحياة فيه.

نقاش
كلام مهم جدا ورائع استفدت كتير