
قبل بزوغ الفجر، تنطلق حياة (اسم مستعار) في رحلتها اليومية لجلب الماء، حاملةً فوق رأسها وعاءً تقليدياً يُعرف في اليمن بـ”الدبّة”، ويُستخدم لنقل الماء من الآبار أو نقاط التوزيع. ثلاثون عاماً من العناء تختصر قصّة صمود امرأة جمعت خطواتها ما يعادل الدوران حول الأرض مرةً ونصف، وحملت ما يوازي 650 طنّاً من الماء. |
على مدى سنواتٍ طويلة، دأبت حياة، كغيرها من نساء قرية شعبة القرانيط التابعة لمديرية الصلو باليمن، على جلب الماء من نبع غيل الحدية، الذي يبعد نحو مائتي متر عن القرية، بحسب السكان المحليين. إلا أن وعورة الطريق حوّلت هذه المسافة القصيرة إلى ما يعادل كيلومتراً تقريباً، كانت تقطعه ثلاث مرات يومياً ذهاباً وإياباً، حاملةً على رأسها عشرين كيلوغراماً من الماء في كل مرة، لتوفّر احتياجات أسرتها وتقوم بأعمال المنزل.
لم تكن حياة وحدها في هذه الرحلة اليومية، فقصّتها تجسّد واقعاً تعيشه معظم النساء في تلك القرية، ومعاناة تتكرر يومياً بتفاصيلها القاسية؛ من ساعات الانتظار الطويلة، والصراع على تأمين المياه، إلى المشكلات الصحية الناتجة عن ثقل الحمولة، وانتهاءً بالانقطاع المُبكر عن الدراسة.
أزمة المياه في قرية شعبة القرانيط
ينبوع غيل الحدية، وهو المصدر الرئيسي للماء في القرية، كان في السابق نظيفاً ومتجدداً، إذ يُعدّ عيناً جارية. غير أنّ مياهه تراجعت بشكلٍ كبير خلال العقدين الأخيرين بسبب الجفاف وقلّة الأمطار، مما فاقم من أزمة المياه في المنطقة الجبلية بطبيعتها، والتي تحيط بها طرق وعرة. كما توجد بعض الأودية الصغيرة في المنطقة، لكنها تقع بعيداً عن التجمعات السكنية.
ثمة في القرية بعض الآبار العشوائية التي حُفرت يدوياً، وهي آبار سطحية لا يتجاوز عمقها عشرة أمتار، وتعتمد على بشكلٍ رئيسي على مياه الأمطار الموسمية. لكنها غير محمية أو مغطاة، ما يجعل مياهها راكدة ومعرّضة للتلوّث ونقل الأمراض، مما يهدّد صحة السكان. كما أنها تعدّ ملكيات خاصّة، وبالتالي لا تتمكّن معظم النساء من الوصول إليها.
في محاولة لتوفير مصدر مستدام للمياه، أُطلق مشروع مياه الصلو في عام 2009، حاملاً معه آمال السكان في التخفيف من معاناتهم. لكنّ المشروع انهار بعد عامين فقط، بسبب الفساد وسوء الإدارة، وفق شهادات السكان المحليين، ليجد الأهالي أنفسهم مجدداً في مواجهة العطش. ومؤخراً، لجأ نحو 5% من السكان إلى بناء خزّانات خرسانية لتجميع مياه الأمطار، في حين عجزت غالبية الأسر عن ذلك بسبب ضعف الإمكانات.
لم تنتهِ القصة بعد، فقد حملت نساء القرية اليوم الشعلة نفسها عن حياة، وتوارثنَ “الدبّة” ذات العشرين كيلوغراماً كإرثٍ ثقيلٍ يتنقّل من جيلٍ إلى آخر، شاهداً على معاناةٍ ما زالت مستمرة…
وإن كانت هذه القصّة تختزل معاناة نساء هذه القرية في اليمن، فإنها تعكس في الوقت ذاته صورة أوسع لأزمةٍ متفاقمة تمسّ المنطقة بأكملها.
تفاقم الشحّ المائي بسبب التغيّر المناخي والكثافة السكانية
لا تزال أزمة شحّ المياه تتصدّر قائمة التحدّيات الملحّة التي تواجه منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إذ أفاد تقرير معهد الموارد العالمية (World Resources Institute) الصادر في آب/أغسطس من العام 2023، بأن 25 دولة حول العالم، تضمّ ربع سكان الأرض، تواجه “إجهاداً مائياً شديداً” سنوياً، أي أنها تستخدم نسبة كبيرة من مواردها المائية المتجدّدة لتلبية الاحتياجات الزراعية والصناعية والمنزلية.
وأشار التقرير إلى أن أكثر المناطق تأثراً تقع في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث يعاني نحو 83% من السكان من نقصٍ حادّ في المياه، وأصبح نصيب الفرد من مياه الشرب أقلّ بكثير من المعدل العالمي. ومن بين الدول الـ25 التي تواجه إجهاداً مائياً سنوياً، توجد 15 دولة عربية، من بينها: البحرين، قطر، الكويت، لبنان، عُمان، الإمارات، تونس، اليمن، العراق، مصر، ليبيا، الأردن، السعودية وسوريا.
تتفاقم الأزمة بفعل عوامل متعدّدة، منها ارتفاع درجات الحرارة، تآكل شبكات المياه القديمة، التلوّث، سوء إدارة الموارد المائية، النمو السكاني السريع، إضافةً إلى الاستخدام المكثف للوقود الأحفوري كمصدر رئيسي للطاقة، مما يؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة، ويساهم في تبخّر الموارد السطحية وزيادة الضغط على المياه الجوفية، وهو ما يُعمّق أزمة الجفاف.
ندرة المياه وتداعياتها
تشكّل ندرة المياه أزمة متفاقمة تؤثّر بشكل مباشر على التدفقات المائية، وتزيد من الاستغلال المفرط للطبقات الجوفية، ممّا يؤدّي إلى تراجع نصيب الفرد اليومي من المياه، ويضع المجتمعات أمام تحديات متصاعدة لا تقتصر على الجانب البيئي فقط، بل تمتد لتشمل أبعاداً اجتماعية واقتصادية عميقة. إذ تدفع هذه الأزمة الكثير من الشباب إلى البطالة أو الهجرة نحو المدن الكبرى بحثاً عن مصادر بديلة للمياه وفرص عمل أفضل.
وفي ظلّ هذه الظروف، لم تعد ندرة المياه مجرّد أزمة بيئية، بل تهديداً شاملاً للأمن المائي والغذائي والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في المنطقة.
الحلول المقترحة لمواجهة أزمة المياه في المنطقة
تحسين البنية التحتية والحدّ من التنقيب العشوائي: يُعدّ تحسين البنية التحتية، مثل إصلاح أنابيب المياه، خطوة أساسية لترشيد الاستهلاك؛ إذ تتسبّب الأنظمة القديمة في فقدان كميات كبيرة قبل وصولها إلى المستهلكين. لذا، تعدّ الصيانة المنتظمة ضرورة للحفاظ على الموارد المائية. كما يعدّ ربط المناطق الريفية والمعزولة بشبكات المياه الوطنية، وإيجاد حلول بديلة بدعم الجمعيات البيئية، أمراً ضرورياً، إلى جانب تشديد الرقابة على التنقيب العشوائي عن العيون المائية وحفر الآبار.
صيانة المنشآت المائية: تعتبر صيانة السدود والقنوات المائية المخصّصة لتجميع مياه الري وتوزيعها على المواطنين من الأولويات، إلى جانب توفير تقنيات فعّالة للحدّ من تبخّر هذه المياه.
دعم نُظم الريّ الفعالة: يُعتبر دعم نُظم الري الفعّالة جزءًا أساسياً من الحلّ، إذ يساعد على معالجة مشكلة الإدارة السيئة والاستخدام العشوائي لموارد المياه. ويضمن تحقيق الاستفادة القصوى من كل قطرة ماء، بما في ذلك تحديد أولويات كل دولة في استخدام الموارد المائية لقطاع الزراعة لتلبية الاحتياجات الوطنية.
استخدام تقنيات حصاد الأمطار: يمكن تعزيز الاستدامة المائية من خلال اعتماد تقنيات حصاد مياه الأمطار، عن طريق استخدام التقنيات الحديثة مثل الصهاريج، إلى جانب الحلول التقليدية التي اعتمدتها المجتمعات المحليّة، مثل الخطّارة في المغرب والمواجل في تونس. فهذه الأساليب تُسهم في تلبية الاحتياجات المنزلية والزراعية وتقليل الضغط على المصادر التقليدية للمياه.
دور الإعلام والمجتمع المدني: يكمن الحل أيضاً في تضافر جهود الشباب والمجتمع المدني والمنظمات والجمعيات والجهات الرسمية والإعلام، لتغيير السلوكيات المجتمعية وزيادة الوعي بأهمية الماء كمورد أساسي وموروث للأجيال المقبلة، وضمان استدامته.
مواصلة الضغط على الملوّثين التاريخيين: من المهم كذلك العمل على الحدّ من آثار التغير المناخي، الذي يفاقم الأزمات البيئية في المنطقة، والحد من استخدام الوقود الأحفوري – المسبّب الرئيسي لارتفاع درجات الحرارة العالمية. هذا الارتفاع يؤدي إلى زيادة تبخر المياه السطحية، وتقليل الموارد المائية المتجددة، مما يزيد من حدة أزمة شح المياه. ويتم ذلك من خلال مواصلة الضغط على الملوثين التاريخيين لتحمّل مسؤولياتهم في أزمة المناخ. كما ينبغي إعادة النظر في المشاريع الصناعية والطاقية التي تستنزف الموارد المائية، خاصة تلك التي تُوجَّه معظم عائداتها للتصدير، مثل مشاريع الهيدروجين الأخضر المستقبلية في شمال أفريقيا.
أخيراً، يجب الانتقال من مرحلة النقاشات والسياسات إلى التطبيق العملي عبر وضع مقترحات واضحة وتنفيذ مشاريع ملموسة على أرض الواقع.
ملاحظة:
القصة واقعية، وقد أُطلق اسم “حياة” على بطلتها احتراماً لرغبة أحد أفراد عائلتها.
نُشكر السيد جميل عبد اللطيف من اليمن على تعاونه وتوفيره المعلومات التي ساعدت في توثيق وكتابة هذه القصة.
لأن التغير المناخي يعدّ من أخطر التهديدات التي تواجه الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وكجزء من مشروعنا التوعوي لمواجهة آثاره والتكيّف معها، نريد أن نسمع منك، ومن المواطنين في جميع أنحاء المنطقة الذين يشهدون على التغيرات من حولهم، تلك التي تسبَّبَ بها الاحترار العالمي.
انضم إلينا

