
تمّ اختراع البلاستيك في عام 1907، لكنَّه أصبحَ شائعَ الاستخدام بعد الحرب العالمية الثانية وأحدثَ تغييرًا ملحوظًا في طريقة تصنيع المنتجات اليومية. في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وأُسوةً بالاتّجاهات العالمية، بدأ يزداد استخدام البلاستيك بين الخمسينيات والسبعينيات نتيجة ظهور صناعات جديدة ومنتجات قائمة على النفط. |
قبل أن يصبح البلاستيك شائعًا، كانَ سكّان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يعتمدون على المواد الطبيعية والقابلة لإعادة الاستخدام في حياتهم اليومية. فكانَ الطعامُ يُشترى طازجًا من الأسواق، ويُغلَّف بمواد مثل الورق أو القماش أو أوراق النبات بدلًا من التغليف بالبلاستيك. وكانَ الماء يُخزَّن ويُحفَظ باردًا في أواني من الفخّار أو في أكياس مصنوعة من جلد الماعز. أمّا الأدوات المنزلية، بدءًا من أدوات الطهي وصولًا إلى الأثاث، فكانت مصنوعة من الخشب أو المعادن أو الخزف، ويُحافَظ عليها من جيلٍ إلى جيل. فكانَ الناس يحرصون على إصلاح أغراضهم بدلًا من التخلّص منها فورًا عند ظهور أوّل علامة على التّلف، كما كانوا يَستخدِمون السّلال المنسوجة أثناء التسوّق، ويُقلِّلون من إنتاج النفايات عن طريق تحويل بقايا الطعام إلى سماد أو إطعامها للحيوانات.
وبعد بضعة عقود، أصبحَ كوكبُ الأرض غارِقًا في البلاستيك واستُنزِفَت أنظمة إدارة النفايات. فكيف وصلنا إلى هذا الحدّ؟
معظم المُستهلِكين لا يتوقّفون للتفكير في مصير ملابسهم القديمة، أو المنتجات البلاستيكية التي يتخلّصون منها، أو الأجهزة الإلكترونية التي يرمونها، أو نفاياتهم البلاستيكية اليومية. لكنَّ الحقيقة هي أنَّ النفايات لا تختفي ببساطة – بل لا بدَّ لها أن ينتهي بها الأمر في مكانٍ ما!
ظنّت دول الشمال العالمي (أو الدول “المتقدّمة”) أنَّه من الجيّد أن تبدأ بتصدير نفاياتها إلى دول الجنوب العالمي (أو الدول “النامية”). تنطوي هذه الممارسة، التي يُشار إليها بـ”الاستعمار بالنفايات” أو “waste colonialism”، على إرسال النفايات – وغالبًا بحُجّة التجارة أو إعادة التدوير أو حتّى المساعدات – إلى دول غير مُجهَّزة للتعامل معها.
تسمح هذه الممارسة للدول الثريّة بالتخلُّص من الأعباء البيئية والاقتصادية المترتّبة على التخلُّص من النفايات، فيتمّ تحويل المسؤولية إلى المجتمعات في الجنوب العالمي. ونتيجةً لذلك، تصبح البيئات المحلّية مُلوَّثة، وتزداد أزمات الصحّة العامّة. فمن المغرب إلى غانا، ومن فيتنام إلى تركيا، تتراكم أكوام النفايات الإلكترونية الضارّة، ومواد التغليف البلاستيكية، والمنسوجات، وغيرها من المواد الخطِرة على البيئة.
“الاستعمار بالنفايات” هو قضية عدالة اجتماعية
“الاستعمار بالنفايات” هو تذكيرٌ صارخ بظاهرة عدم المساواة التي تطغى على العالم بأسرِه، حيث تقوم الدول “المتقدّمة” المزعومة بتصدير نفاياتها إلى دول الجنوب العالمي. لكنَّها ليست مجرّد مسألة بيئية – بل هي قضية عدالة اجتماعية. فهذه الممارسة تُؤدّي إلى تعميق الفجوة بين دول الشمال ودول الجنوب وتفاقُم الفقر، كما أنَّها قد تُساهِم، تبعًا لنوع النفايات المُصدَّرة، في انتشار الأمراض في البلدان المُتلقِّية. ويُشكِّل ذلك امتدادًا للاستغلال في حقبة الاستعمار، حيث تُعامَل الدول الفقيرة كمكبّات للنفايات نتيجة الاستهلاك المفرط والصناعات المتطوّرة في البلدان الثريّة.
تُعتبَر الولايات المتّحدة وكندا والمملكة المتّحدة وألمانيا واليابان من بين أكبر الدول المُصدِّرة للنفايات. على سبيل المثال، في عام 2022، شحنت أوروبا 1.6 مليون طن من النفايات إلى مصر، ومليون طن آخر إلى المغرب. وقبل ذلك، في عام 2020، قامت إيطاليا بتصدير النفايات بشكل غير قانوني إلى تونس زاعمةً أنَّها نفايات بلاستيكية قابلة لإعادة التدوير، إنَّما تَبيَّنَ لاحقًا أنَّها نفايات بلدية غير مفروزة. وبعد الاحتجاجات العامّة والنزاعات قانونية، أعادت تونس النفايات إلى إيطاليا في عام 2022، ممّا يُسلِّط الضوء على قضايا تجارة النفايات غير القانونية والعدالة البيئية.
إنَّ ظاهرة إلقاء النفايات تُخلِّفُ آثارًا كارثية على البيئة والمجتمعات المحلّية. فالجزء الأكبر من النفايات المُستورَدة يَصِل من دون فرز أو يكونُ غيرَ صالحٍ للمعالجة. وبالتالي، تتراكم النفايات في المَطامِر، وتتسرّب المواد الكيميائية السامّة إلى المياه الجوفية والتربة. وتُعاني المجتمعات المُجاوِرة من ارتفاع حالات الإصابة بأمراض الجهاز التنفّسي، أمراض الجلد وحتّى الأمراض السرطانية بسبب التعرُّض المستمرّ لسموم النفايات.
في المغرب، حيث تفتقر العديد من المناطق خارج المُدُن الكبرى إلى البنية التحتية والتمويل اللازم لإدارة النفايات، تنتشر ظاهرة حرق النفايات، ولكنَّها ممارسةٌ ضارّة، إذ تتسبّب بالكثير من المشكلات البيئية والصحّية الخطيرة. هناك ما لا يقلّ عن 300 مكبّ نفايات غير نظامي، ويُمثِّل الأطفال 10% من جامعي النفايات الذين يعملون في هذه الظروف المحفوفة بالمخاطر.
وفي منطقة أغبوغبلوشي في غانا – أحد أكبر مَطامِر النفايات الإلكترونية في العالم – يتعرّض العمّال، ومن بينهم الأطفال، للمعادن الثقيلة السامّة أثناء البحث عن مواد قيّمة بين الإلكترونيات المرميّة. وفي الوقت نفسه، في جنوب شرق آسيا، تختنق الأنهار بجزيئات الأقمشة الاصطناعية والنفايات البلاستيكية، ممّا يؤدّي إلى تداعيات طويلة الأمد على الصحّة.
الأزياء السريعة؛ تراكُمٌ أسرع للنفايات
تُعتبَر صناعة الأزياء السريعة أحد أخطر جوانب التخلُّص من النفايات. يُنتِج هذا القطاع كمّياتٍ هائلة من الملابس الرخيصة ذات الجودة الرديئة والتي يتمّ التخلُّص منها بسرعة. وتقوم الدول الثريّة بـشحن الكثير من هذه النفايات إلى دول الجنوب تحت ذريعة “التبرّعات”. ولكنَّ العديد من هذه الملابس غير قابلة للبيع بسبب جودتها الرديئة، ممّا يؤدّي إلى أكوام من النفايات التي لا تُعَدّ ولا تُحصى.
تحتوي معظم الأزياء السريعة على مواد اصطناعية مثل البوليستر، وهي لا تتحلّل بيولوجيًا كما أنَّها تُطلِق جزيئات بلاستيكية ضارّة في البيئة. ولا تقتصر المشكلة على استغلال عمّال صناعة الملابس في البلدان المُنتِجة، بل تمتدّ لتشمل العبء المُلقى على عاتق الدول المُستورِدة للنفايات والتي تتكبّد التأثير البيئي الكارثيّ لهذه الصناعة.
الحلول في متناول اليد
حلول أزمة النفايات في متناول أيدينا، ولو كانت هذه المشكلة المعقّدة تتطلّب إجراءات جريئة وإصلاحات قانونية وتعاونًا على المستوى العالمي. ولكنَّ الأفكار والحلول ليست بعيدة عنّا – فـالممارسات التقليدية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحمل دروسًا قيّمة حول الاستدامة. في مصر على سبيل المثال، تقوم العائلات بإصلاح الأغراض وإعادة استخدامها، مثل الملابس والأدوات المنزلية، ممّا يُطيل عمرها ويُقلِّل من النفايات. وفي المغرب، يُعاد استعمال المنسوجات القديمة في شكل حقائب أو سجّادات أو أغطية، ممّا يُقلِّل الحاجة إلى مواد جديدة. ولطالما لجأ سكّان المناطق الريفية في جميع أنحاء المنطقة إلى الاستفادة من الموارد الطبيعية، مثل أوراق النخيل والقشّ، لتصنيع العبوات والسلال والأدوات، ممّا يُقلِّل من الاعتماد على البلاستيك.
وتتبنّى بعض الدول، مثل تونس والأردن ولبنان، هذه الأساليب التقليدية من خلال دعم عملية إعادة التدوير التحسيني والمبادرات الصديقة للبيئة، على غرار ما يُعرَف بالأزياء البطيئة، التي هي نقيض الأزياء السريعة، كما تتّخذ نهجًا أخلاقيًا ومستدامًا لإنتاج الملابس. فالأزياء البطيئة تُعَدّ بمثابة حلّ أساسي للحدّ من تدفّق الملابس الرخيصة الاستهلاكية التي تغرق بها الأسواق وتُساهِم بشكل كبير في إنتاج النفايات. وعند دمج هذه الممارسة مع استراتيجيات حديثة للحدّ من النفايات، فمن شأنها أن تُساعِد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على إحداث فارق حقيقي في الاقتصاد الدائري والحدّ من النفايات. فهي لا تُحافِظ على التراث الثقافي فحسب، بل تُقدِّم حلولًا قليلة الكلفة للتحدّيات البيئية التي نشهدُها اليوم.
لمعالجة مشكلة الاستعمار بالنفايات، نحتاج أيضًا إلى حلول حديثة على المدى القريب والبعيد. ومن بين الحلول الرئيسية، نذكر “المسؤولية الممتدّة للمُنتِج”، حيث تتحمّل الشركات المسؤولية الكاملة عن دورة حياة منتجاتها. وبهذه الطريقة، يتمّ تشجيعها على تصميم منتجات أسهل في إعادة التدوير وأقلّ ضررًا على الكوكب. وثمّة خطوة أساسية أخرى تتمثّل في “الموافقة المسبقة عن عِلم” التي تضمن حقّ البلدان في رفض شحنات النفايات الخطيرة، والاحتفاظ فقط بالمواد المفيدة وذات الجودة العالية. ومن الضروري أيضًا اعتماد قوانين أكثر صرامةً لتنظيم عمليات التصدير، بما في ذلك الفرز الأفضل وإعادة التدوير محلّيًا.
وأخيرًا، يتعيّن على دول الشمال العالمي أن تتحمّل مسؤولياتها من خلال الاستثمار في البنى التحتية لإدارة النفايات في دول الجنوب العالمي، ممّا يضمن حصول هذه المناطق على الأدوات اللازمة لإدارة النفايات بطريقة مستدامة وعدم إثقال كاهلها بنفايات الدول الأكثر ثراءً.
من خلال الجمع بين الأساليب التقليدية والاستراتيجيات الحديثة، يمكننا بناء نهج أكثر استدامةً وعدالةً لإدارة النفايات. معًا، نستطيع كسر حلقة الاستعمار بالنفايات والتمهيد لمستقبلٍ خالٍ من النفايات البلاستيكية الضارّة التي تُهدِّد صحّتنا وكوكبنا.
لقد آنَ الأوان لتحويل هذه الرؤية إلى واقعٍ ملموس. أمامنا اليوم فرصة تاريخية لا تتكرّر مرّتَيْن في جيلٍ واحد لنضع حدًّا لأزمة البلاستيك. فقد التزمت الحكومات في مختلف أنحاء العالم رسميًا بالتفاوض على معاهدة عالمية مُلزِمة قانونًا بشأن البلاستيك وتتناول دورة حياة البلاستيك بكاملها.

– معاهدة تكفل أن يبقى كوكبنا أكثر نظافةً وأمانًا لنا وللأجيال المقبلة.
وقّع العريضة اليوم!