يفاقم الخلل المناخي من حدة الجفاف، ويُسرّع من وتيرة تدهور الأراضي وفقدانها لقدرتها الإنتاجية.

لا يعلم كثيرون أن الصحراء الكبرى لم تكن دائماً ذلك الامتداد الأصفر الجافّ الذي نراه اليوم. فقبل ما بين خمسة آلاف وأحد عشر ألف عام، كانت هذه الرقعة الشاسعة من الأرض مكسوّة بغطاء نباتي شبه كامل، تنبض بالحياة والخُضرة. ظاهرة تحوّل الأراضي الخصبة إلى صحارى قاحلة، المعروفة بـ”التصحر”، ليست جديدة على أفريقيا، إذ بدأت منذ آلاف السنين. ولكن مع تطور المجتمعات وزيادة الأنشطة البشرية، ساهما في مفاقمة التصحّر بشكلٍ ملحوظ خلال العقود الأخيرة. اليوم، تواجه دول شمال أفريقيا أزمة بيئية متصاعدة، تهدّد سبل العيش وتُعرّض التنوّع البيولوجي للخطر.

تُعدّ منطقة الساحل من أكثر المناطق تضرراً في القارة الإفريقية. فهي حزام شبه جاف يمتد من المحيط الأطلسي غرباً إلى البحر الأحمر شرقاً، مشكّلًا الحافة الجنوبية للصحراء الكبرى. خلال العقود الأخيرة، ولا سيّما منذ النصف الثاني من القرن العشرين، شهدت منطقة الساحل تسارعاً ملحوظاً في وتيرة التصحر، حيث تعرّضت لسلسلة من موجات الجفاف المدمّرة، مما أدى إلى تمدّد الصحراء الكبرى بنسبة تُقدّر بنحو 10%.

ووفقاً لتقاريرٍ صادرة عن الأمم المتحدة، يفقد العالم سنوياً أكثر من 24 مليار طن من التربة الخصبة بسبب التصحر. ومن هنا تبرز أهمية فهم أسباب هذه الظاهرة وتبعاتها، باعتباره خطوة أساسية نحو بناء مستقبل أكثر استدامة للمنطقة.

جذور التصحر

يُعزى التصحر في شمال أفريقيا إلى تداخل مجموعة من العوامل الطبيعية والبشرية. ويُعدّ تغيّر المناخ أحد أبرز هذه العوامل، إذ بات مناخ المنطقة يشهد اضطرابات متزايدة تتمثل في ارتفاع درجات الحرارة وتقلّب أنماط هطول الأمطار. هذا الخلل المناخي يفاقم من حدة الجفاف، ويُسرّع من وتيرة تدهور الأراضي وفقدانها لقدرتها الإنتاجية.

كذلك، تُفاقم الأنشطة البشرية من أزمة التصحر. فعلى سبيل المثال، يؤدي الرعي الجائر إلى إزالة الغطاء النباتي الذي يحمي التربة من التعرية. وتشير تقديرات برنامج الأمم المتحدة للبيئة إلى أن الرعي الجائر يسهم بنحو 58% من حالات التصحر في أفريقيا. كما تُعد إزالة الغابات عاملًا رئيسيًا في تدهور الأراضي، حيث تفقد دول شمال أفريقيا، مثل المغرب، ما بين 0.5% و0.8% من غاباتها سنوياً، وفقًا لتقرير Global Forest Watch لعام 2024، وهو ما يُضعف قدرة التربة على الاحتفاظ بالرطوبة والمغذيات.

إلى جانب ذلك، تسهم الزراعة غير المستدامة – بما في ذلك ممارسات مثل الحرث العميق والإفراط في استخدام المياه – في تفاقم الأزمة، حيث تشير التقديرات إلى أنها مسؤولة عن نحو 20% من التصحر في المنطقة.

عواقب تعيد تشكيل الحياة: الأثر الاجتماعي والاقتصادي للتصحّر

لا تقتصر آثار التصحر على البيئة فحسب، بل تمتد لتطال البُنى الاجتماعية والاقتصادية في شمال إفريقيا، حيث يُهدد انعدام الأمن الغذائي وندرة المياه أسس الاستقرار والتنمية في المنطقة.

بين عامي 1984 و1985، لفتت أنظار العالم إلى ما عُرف إعلاميا بـ”حزام الجوع”، بعد أن ضرب جفاف حادّ منطقة الساحل، وتُركت الأراضي قاحلة بلا ماء أو غطاء نباتي. وشهد سكان هذه المنطقة الشاسعة، التي تبلغ مساحتها أربعة ملايين كيلومتر مربع، ومعظمهم من الرعاة، نفوق الثروة الحيوانية بالكامل تقريباً. مما أدّى إلى مجاعة كبرى أثارت اهتمامًا دوليًا واسعًا. شكّلت هذه الكارثة لحظة فاصلة أعادت صياغة الطريقة التي ينظر بها المجتمع الدولي إلى العلاقة بين تغيّر المناخ والتصحر.

لاحقاٌ، تكرّرت موجات الجفاف على نحوٍ أكثر شدّة. بين عامي 1968 و1974، أصبح الرعي نشاطاً شبه مستحيل، وأدت إلى مجاعة واسعة النطاق استدعت أول تعبئة للمساعدات الخارجية.

في دول مثل المغرب والجزائر وتونس، أدّت فترات الجفاف الممتدة إلى تدهور كبير في الإنتاج الزراعي ونفوق أعداد كبيرة من الماشية، ما ترك آلاف السكان دون إمدادات غذائية كافية. وقد شهدت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، خلال العقد الماضي، بعضًا من أشد موجات الجفاف المسجّلة. فعلى سبيل المثال، سجّل المغرب في عام 2023 انخفاضًا بنسبة 40% في إنتاج الحبوب مقارنة بالمعدلات السنوية المعتادة، بحسب تقارير منظمة الأغذية والزراعة (FAO, 2024). ويؤدي هذا التراجع في القدرة على إنتاج الغذاء إلى تفاقم معدلات الفقر وسوء التغذية، مما يعمّق حلقة الندرة ويزيد من هشاشة المجتمعات الريفية.

بحلول عام 2050، من المتوقع أن يعيش 100% من سكان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENA) تحت ضغط مائي شديد للغاية.

  فقدان التنوع البيولوجي

مع تدهور الأراضي الخصبة، تفقد النظم البيئية قدرتها على دعم التنوع الحيوي من نباتات وحيوانات. ويواجه التنوع البيولوجي الذي كان يزدهر في شمال أفريقيا اليوم تهديدًا متزايدًا وشديد الخطورة. حاليًا، تُصنف أكثر من 6,400 نوع من الحيوانات وما يزيد على 3,100 نوع من النباتات في أفريقيا على أنها مهددة بالانقراض.

الهجرة القسرية


يدفع التصحر المجتمعات الريفية إلى النزوح. مع تحوّل الأراضي الصالحة للزراعة إلى أراضٍ قاحلة، تُجبر المجتمعات الريفية على الهجرة، مما يؤدي إلى اكتظاظ المراكز الحضرية. في نهاية عام 2020، نزح أكثر من 2.5 مليون شخص داخلياً في منطقة الساحل، بزيادة تعادل عشرين ضعفًا خلال عامين فقط. غالباً ما يؤدي النزوح إلى ظروف سكنية غير ملائمة، حيث يفتقر أكثر من 75% من النازحين، ومعظمهم من النساء والأطفال، إلى مساكن مناسبة، مما يزيد من احتمالية تعرضهم لمخاطر صحية.

الخسائر الاقتصادية

تخسر أفريقيا 3 ملايين هكتار من غاباتها سنوياً، مما يؤدي إلى خسارة بنسبة 3% من الناتج المحلي الإجمالي بسبب استنزاف التربة والعناصر الغذائية. وبسبب الانخفاض الحتمي في إنتاجية الأراضي، أنفقت أفريقيا أكثر من 43 مليار دولار على واردات الغذاء السنوية، بينما يعاني المزارعون من خسائر في الأرباح نتيجة عدم خصوبة التربة، حيث يُقدّر أن الفجوة المتزايدة في إنتاج المحاصيل بسبب تدهور التربة تُكلف القارّة خسائر سنوية تصل إلى 68 مليار دولار أميركي.

دراسة حالة: غابة تليل في صبراتة – معركة من أجل البقاء

التهديد والتدهور البيئي

شهدت بلدية صبراتة في ليبيا تراجعاً حادًاً في الغطاء النباتي، لا سيّما في غابة تليل ومنتزه صبراتة الوطني، نتيجة لتأثيرات طبيعية وبشرية متعددة. بين عامي 1985 و2015، تقلّصت المساحات الغابية من 7.8% إلى 0.8%، نتيجة التوسع العمراني والأنشطة غير المستدامة. وأظهرت صور الأقمار الصناعية أن غابة تليل، التي كانت كثيفة ونابضة بالحياة في عام 2004، فقدت جزءًا كبيرًا من غطائها النباتي بحلول عام 2023، مما جعل التصحر يشكل تهديدًا كبيراً للمنطقة.

أهمية الغابات المتكاملة

تلعب الغابات في صبراتة دوراً بيئياً وصحياً محورياً، إذ تشكل حاجزاً طبيعياً يحمي من آثار التغيّر المناخي، وتحافظ على التنوّع البيولوجي الغني. كما توفر مساحات خضراء حيوية تتيح للسكان فرصاً للتنفس والترفيه، إلى جانب دورها في حماية التربة والحفاظ على الموارد المائية. علاوة على ذلك، تساهم الغابات في دعم الصحة النفسية والجسدية للسكان من خلال خلق بيئة طبيعية متجددة. غير أن الضغوط البيئية والاقتصادية، مثل التوسع العمراني العشوائي والرعي الجائر، باتت تهدد هذا التوازن البيئي الهش.

الاستجابة والسياسات البيئية

رغم التحديات الكبيرة، توجد جهود قانونية محلية تهدف إلى حماية الغابات، منها قانونا 1971 و1992، إلى جانب نصوص دستورية مقترحة تكفل حقوق البيئة وإدارة الموارد الطبيعية بشكل مستدام. ومع ذلك، تعاني هذه القوانين أحياناً من ضعف في التطبيق ونقص في الموارد اللازمة. لذلك، تتطلب الأزمة البيئية الحالية استجابة متكاملة تجمع بين المجتمع المدني، وصناع القرار، والجهات البيئية، لدعم مبادرات التشجير، وتعزيز المساءلة البيئية، وتشجيع الممارسات الزراعية المحلية المستدامة.

حلول عملية ممكنة:
لمواجهة خطر التصحر واستعادة الغطاء النباتي في صبراتة، يمكن اعتماد مجموعة من التدخلات الفعالة مثل:

  • إطلاق حملات توعية محلية تشارك فيها المدارس والمجتمع لتعزيز ثقافة الحفاظ على الغابات.
  • إعادة التشجير باستخدام أنواع نباتية محلية مقاومة للجفاف والتغيرات المناخية.
  • دعم فرص العمل الخضراء عبر التدريب على الزراعة المستدامة والمهن البيئية.
  • استخدام التكنولوجيا لرصد التعديات البيئية والتوسع غير القانوني.
  • دعم وتشجيع المزارعين الذين يلتزمون بأساليب زراعية تحافظ على البيئة وتمنع تدهور التربة.

يُعتبر التصحر في شمال أفريقيا أزمة بيئية حادة تتطلب تحركًا عاجلاً. إذا استمرت الممارسات الحالية دون تعديل، فمن المتوقع أن يفقد أكثر من نصف الأراضي الصالحة للزراعة في القارة الأفريقية قدرتها على الاستخدام بحلول عام 2050. لذلك، من الضروري أن تتعاون الحكومات والمنظمات الدولية والمجتمعات المحلية بشكل فعّال لمواجهة هذا التحدي. عبر إعطاء الأولوية لاستعادة البيئة وتعزيز التنمية المستدامة، يمكن لشمال أفريقيا حماية أنظمتها البيئية، وضمان رفاهية سكانها، وبناء مستقبل أكثر مرونة واستدامة.

*تمّ الاستناد في دراسة الحالة إلى معلومات واردة في شهادة أرسلتها لنا حمْد عبد الرزاق أوشاح (28 عاماً)، من مدينة صبراتة. تعمل في مجال الإدارة الصحية ومتطوّعة في منظمة تُعنى بالعدالة المناخية وتمكين الشباب.