تغيّر المناخ لم يكن يوماً مجرّد أزمة بيئية بعيدة عنّا، بل هو واقع يهدد حاضرنا ومستقبلنا، خاصّة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تقف في عين العاصفة. هنا، الخسائر لا تقتصر على الاقتصاد ولا تُقاس بالأرقام فقط، بل تُجسّد أرواحاً تُزهق وسبل عيش تُمحى وبيوتاً تُدمّر، بينما تتحوّل هذه المنطقة النابضة بالتنوّع البيولوجي إلى ساحة صراعٍ مع الجفاف والفيضانات وحرائق الغابات وارتفاع درجات الحرارة. |
تخيّلوا مزارعاً يقف عاجزاً أمام أرضٍ كانت تفيض بالخيرات وباتت اليوم قاحلة، أو مجتمعات بدوية تُواجه خطر زوال الواحات التي كانت تنبض بالحياة، أو عائلاتٍ تكافح وسط شُحّ المياه وارتفاع درجات الحرارة وانهيار سُبل معيشتها. هؤلاء ليسوا مجرّد أرقامٍ تُضاف إلى تقارير الإحصاء، بل أناسٌ متجذّرون في أرضهم وثقافتهم، يجدون أنفسهم في معركةٍ شرسةٍ للبقاء: إما يتركون أرضهم قسراً أو يواجهون شبح الفقر والتهميش.
من قلب منطقتنا، التي تعدّ من الأكثر تضرراً بتغيّر المناخ، ترتفع أصوات قصص ضحايا أزمة المناخ كناقوس خطر، مسلّطة الضوء على معاناة المجتمعات المحلية التي تقف عند الخطوط الأمامية لهذه الأزمة.
نساء الأهوار من بين الأكثر تضرراً بالتغيّرات المناخية
في قلب أهوار جنوب العراق، حيث يشكّل الماء والشجر والجاموس نسيج حياة سكانها، تواجه النساء اليوم أزمة التغيّر المناخي بشكلٍ مباشر. فقد تدهورت الأهوار، المُدرجة كمحمية طبيعية، بسبب انخفاض تدفّقات نهري دجلة والفرات اللذين يزوّدان العراق بنحو 98% من مياهه السطحية، مما أدى إلى جفاف الأراضي وارتفاع الملوحة وتدمير البيئة التقليدية للأسماك والماشية.
نساء الأهوار، اللواتي كنّ حجر الاساس في مجتمعاتهنّ من خلال الزراعة وصيد الأسماك وتربية الحيوانات، تأثّرن بشدة بفعل ذلك. فمع تراجع المياه، انخفض إنتاج “القيمر العربي”، وهو القِشدة التي تتميّز بنكهتها الأصيلة والخالية من الإضافات وتُصنع من حليب الجاموس المنتشر في أهوار جنوب العراق. هذا المصدر الأساسي للدخل تراجع، ممّا دفع العديد من العائلات إلى الهجرة وترك تراث يمتدّ لآلاف السنين. اليوم، تبيّن الأرقام فقدان بين 20% و33% من قطعان الجاموس، وانخفاض إنتاج الحليب من 6 لترات يومياً إلى أقل من لتر. كما أنّ أكثر من 70% من الأهوار خالية من المياه، وفقدت 95% من الثروة السمكية، مما يزيد الأعباء على النساء المعيلات لأسرِهنَّ.
مع تصنيف العراق كأحد أكثر الدول تأثّراً بالتغيّر المناخي، تواجه الأهوار خطر التحوّل إلى صحراء، مع تدهور التنوّع البيولوجي وفقدان الجاموس، رمز التراث. وأدّى تغيّر المناخ إلى موجات هجرة واسعة وخسارة هذا التنوّع ومصادر العيش، حيث أصبحت مناطق كبركة أم النعاج وهور الحمار الغربي جزءاً من الصحراء، مما يهدّد مستقبل الأهوار وناسها الذين لطالما شكّلوا خط الدفاع الأول ضد التغيّرات المناخية.
الواحات المغربية: إرثٌ طبيعيّ يواجه خطر الاندثار
في المغرب، أحد أكثر البلدان ندرة في الموارد المائية عالمياً، يواجه السكان جفافاً غير مسبوق منذ عقود. تُعدّ الواحات، التي تغطّي 15% من مساحة البلاد، شريان حياة يقع في قلب الصحراء؛ فهي تتغنّى بأشجار النّخيل وبنظامها البيئي والطبيعي الفريد، وتمثّل إرثاً ثقافياً عريقاً ودعامةً للزراعة وتربية المواشي التي دعمت استقرار السّكان المحليّين.
لكن هذه الواحات تواجه اليوم تهديدات متزايدة بفعل تغيّر المناخ والجفاف الشديد وزحف الرمال، إذ فقد المغرب خلال القرن الماضي ثلثي أشجار النّخيل بسبب التصحّر وزحف الرمال. كما اختفى ثلثا الموائل الطبيعية، مما أثّر بشكلٍ مباشر على الإنتاج الزراعي والأمن الغذائي، ودفع العديد من السكان إلى النزوح.
فعلى سبيل المثال، كانت واحة سكورة، التي يعود تاريخها إلى القرن الثاني عشر، معروفة بإنتاج اللوز والتفاح والزيتون والتمر، لكنها انضمت اليوم إلى قائمة الواحات العطشى. لقد ترك التغيّر المناخي وشح المياه آثاراً مدمّرة على الواحة وسكانها، حيث جفّت عروق 14 مليون نخلة، ما أدى إلى موت ثلثها. إذا استمرّت هذه التغيّرات، فإن هذا الإرث الطبيعي والثقافي مهدّد بالاندثار.
تونس: صرخة مجتمعات الريف في وجه التغيّر المناخي
في قلب تونس، تكشف مناطق مثل العلا وقلعة الأندلس الوجه القاسي لتأثيرات تغيّر المناخ على الفئات الأكثر هشاشة. وفقاً لدراسة أعدّها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فإن التغيّر المناخي لم يكن مجرّد ظاهرة بيئية، بل تحوّل إلى أزمة إنسانية تضرب أعماق المجتمع. الطبقات الفقيرة، التي تعاني بالأصل من ضغوطات اقتصادية واجتماعية، وجدت نفسها في مواجهة آثار تفاقمت حدّتها، مع تحميل النساء النصيب الأكبر من العبء.
كانت منطقة العلا تعتمد في معيشة سكانها على زراعة الزيتون والحمضيات. لكنّ ارتفاع درجات الحرارة واشتداد الجفاف أجهض أحلامهم بمواسم زراعية واعدة. تراجعت المحاصيل، تقلّص الدخل، والحياة اليومية أصبحت أصعب من أيّ وقتٍ مضى. النساء هناك، اللواتي يشكّلن حجر الأساس في الحياة الريفية، يجدن أنفسهنّ مرغمات على قطع مسافات طويلة لجلب المياه، مما يزيد من الأعباء اليومية المُلقاة على عاتقهن.
هذه الأزمة لم تقتصر على تآكل الموارد، بل امتدت لتحدث شرخاً عميقاً في النّسيج الاجتماعي. تصاعدت البطالة، وتآكلت العلاقات الأُسرية، وأصبح النزوح من المناطق الريفية واقعاً مريراً. تجربة العلا وقلعة الأندلس تشكّلان مثالاً حياً ضمن مشهد أوسع. فهذه القرى ليست مجرّد نقاط على الخريطة، بل قصص إنسانية تحمل بين طيّاتها الكثير من الألم. إذ تجسّد هذه الحالات التأثير المباشر للتغيّرات المناخية على المجتمعات المحلية في تونس، لا سيّما تلك التي تعتمد في معيشتها على الموارد الطبيعية.
اليمن: التغيّر المناخي يُكمل ما بدأته الحرب
في اليمن، يبدو أن معركة البقاء أصبحت أكثر تعقيداً، إذ تتداخل تبعات التغيّر المناخي مع أهوال الحرب المستمرة حتى الآن لتخلق واقعاً يهدّد أبسط مقومات الحياة. الفيضانات تغمر مخيّمات النازحين، والتصحّر يلتهم الأراضي الزراعية، مما يفاقم معاناة مستمرّة منذ سنوات. الحرب أنهكت الموارد وأضعفت الدولة، إذ يعاني 80% من السكان من صعوبة في الوصول إلى الخدمات الأساسية، بينما يضيف تغيّر المناخ أزمة ندرة المياه وانعدام الأمن الغذائي الذي يهدّد حياة الملايين.
في قرية المخبية بحضرموت التي كانت تُخفيها غابة من النخيل، ابتلعت الرمال الأرض الخضراء وأجبرت الأُسر على الرحيل. مع العلم أنّ قصة المخبية تتكرر في مناطق أخرى. أما بالنسبة لمدينة عدن، فهي تواجه تهديداً كبيراً مع ارتفاع مستوى سطح البحر والعواصف التي تلوّث المياه السطحية والجوفية، ممّا يزيد من انتشار الأمراض المُعدية ويضاعف أزمة الأمن الغذائي. وفق دراسة للجمعية اليمنية لرعاية الأسرة، يفقد اليمن سنوياً بين 3% و5% من أراضيه الزراعية بسبب التصحّر، حيث انخفضت المساحات المزروعة من 1.6 مليون هكتار في عام 2010 إلى 1.2 مليون في عام 2020. ويعاني اليوم أكثر من 19 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي، مع تسجيل 161 ألف حالة على حافة المجاعة، بحسب الدراسة نفسها.
لقد زاد التصحّر من 90% إلى 97% خلال أقل من عقد، ومستوى سطح البحر في اليمن قد يرتفع 0.54 متر بحلول 2100، مما يهدّد بتسرّب المياه المالحة إلى مصادر المياه العذبة، ويُفاقم بالتالي من أزمات ندرة المياه التي تعاني منها البلاد. حتّى القطاع السمكي لم يسلم؛ فقد انخفضت الأرصدة السمكية بنسبة تصل إلى 23% بسبب تغيّر النظم البيئية وارتفاع درجات حرارة البحار، وفق تقرير المناخ والتنمية الخاص باليمن لعام 2024.
وسط هذه الأزمات المتشابكة، تتحوّل نجاة اليمنيين إلى معركة يومية، حيث تعكس الأرقام معاناة مجتمع يقاوم حرباً لا تنتهي، وكارثة بيئية ومناخية لا تعرف حدوداً.
دلتا النيل: تهديد مستقبلي للأراضي والزراعة
تعدّ دلتا النيل، التي تمتد على مساحة 240 ألف كيلومتر مربع وتضم مدناً كبرى وكثافة سكانية، من أكثر المناطق المهددة عالمياً، إذ تشير التقديرات الأخيرة إلى أنّ ارتفاع مستوى البحر يهدّد الإنتاج الزراعي، الذي يشكّل قاعدة النشاط الزراعي في مصر. كما من المتوقع أن تتوّغل المياه المالحة في مساحات واسعة من الدلتا، مما يهدد الأراضي الزراعية ويضعف الإنتاج الزراعي في المستقبل. ومن المتوقع أن يؤدي ارتفاع منسوب مياه البحر إلى فقدان 50% من الأراضي الساحلية في دلتا النيل بحلول عام 2100، مما يسبب تحولات سكانية هائلة.
أفاد تقرير البنك الدولي لعام 2022 بأنّ ارتفاع درجات الحرارة وموجات الحرّ يساهمان في تسريع عملية التبخّر ويزيدان من جفاف التربة، مما يُضعف قدرتها على دعم المحاصيل. ومع استمرار هذه التغيّرات، تواجه مصر خطرًا حقيقياً مع تزايد احتمال تدهور السواحل وغرق الدلتا، ما قد يؤدي إلى نزوح ملايين السكان وفقدان مساحات زراعية شاسعة. في هذا السياق، تُعتبر دلتا النيل، وفقًا لتقرير الهيئة الحكومية الدولية لتغيّر المناخ، إحدى “النقاط الساخنة الثلاث الرئيسية” الأكثر تعرضاً للخطر عالمياً.
كما أنّ ندرة المياه تفاقم الأزمة؛ فقد تنخفض إمدادات المياه بحلول عام 2025 إلى أقل من 500 متر مكعب للفرد، وهو مستوى يُصنَّف كـ”ندرة مطلقة”.هذا الواقع يُفاقم تأثيرات التغير المناخي، حيث تتزايد معدلات تبخر المياه، ويُفاقم من الاضطرابات المناخية مثل الفيضانات وموجات الجفاف الطويلة. إنّ الشريط الساحلي المصري الممتدّ من السلوم إلى الإسكندرية يعاني أيضاً من التوسّع العمراني العشوائي، الذي يزيد من تداعيات التغيّر المناخي، مثل تآكل السواحل وارتفاع درجات الحرارة وزيادة العواصف الرملية.
ما الذي نستنتجه إذا؟
إنّ القصص المؤلمة التي تنبع من مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مواجهة التغيّر المناخي تحمل في طياتها درساً صريحاً: إنّ مواجهة أزمة المناخ ليست ترفاً على الإطلاق، بل ضرورة لضمان مستقبلٍ آمنٍ وعادل. كل يوم يُهدر من دون اتخاذ خطوات فعلية يُثقل كاهل هذه المجتمعات التي تقف عند الخطوط الأمامية للأزمة، وكأنّه حكم قاسٍ بالأشغال الشاقة أو حتّى الموت. لذا، فإنّ وضع حدٍّ لهذه المعاناة يُشكّل جوهر العدالة المناخية، التي أصبحت حاجة ماسّة وأكثر إلحاحاً من أيّ وقتٍ مضى.

لأن التغير المناخي يعدّ من أخطر التهديدات التي تواجه الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وكجزء من مشروعنا التوعوي لمواجهة آثاره والتكيّف معها، نريد أن نسمع منك، ومن المواطنين في جميع أنحاء المنطقة الذين يشهدون على التغيرات من حولهم، تلك التي تسبَّبَ بها الاحترار العالمي.
انضم إلينا